
جهاد علي
في السنوات الأخيرة، اتجهت مصر بخطى واضحة ومدروسة نحو تحقيق هدف استراتيجي يتمثل في أن تصبح مركزًا إقليميًا لتجارة وتداول الطاقة. ويأتي هذا التوجه مدفوعًا بجملة من العوامل، من أبرزها موقع مصر الجغرافي المميز بين ثلاث قارات، والبنية التحتية القوية في قطاع الطاقة، إلى جانب الاكتشافات الضخمة في الغاز الطبيعي، خاصة حقل “ظُهر”، وشبكات الربط الكهربائي المتنامية مع دول الجوار.
اكتشافات الغاز الطبيعي.. بداية التحول
بدأ التحول الفعلي لمكانة مصر في خريطة الطاقة العالمية مع اكتشاف حقل ظهر العملاق في البحر المتوسط عام 2015، والذي يُعد من أكبر الاكتشافات في المنطقة. تبع ذلك سلسلة من الاكتشافات الأخرى في شرق المتوسط، ما عزز من احتياطي مصر وأعادها إلى تصدير الغاز بعد أن كانت دولة مستوردة.
وتعمل وزارة البترول المصرية على تنفيذ خطة تنموية متكاملة لتحفيز الاستثمار في قطاع التنقيب والإنتاج، بالتعاون مع شركات عالمية كبرى مثل “إيني” الإيطالية و”شيفرون” الأميركية و”بي بي” البريطانية.
محاور استراتيجية مصر في قطاع الغاز
تعتمد مصر على ثلاث ركائز رئيسية لتعزيز مركزها في سوق الغاز:
-
تسييل الغاز: تمتلك مصر بنيتين رئيسيتين لتسييل الغاز الطبيعي في إدكو ودمياط، وهما المنشأتان الوحيدتان في شرق المتوسط القادرتان على استقبال الغاز من دول الجوار، معالجته، ثم إعادة تصديره لأوروبا.
-
التكامل الإقليمي: وقّعت مصر اتفاقيات مع كل من إسرائيل وقبرص واليونان لنقل الغاز إلى أراضيها ثم إعادة تصديره.
-
منتدى غاز شرق المتوسط: لعبت مصر دورًا محوريًا في تأسيس المنتدى، الذي يضم عدة دول منتجة ومستهلكة ومستوردة للغاز، بهدف تنظيم السوق وضمان التعاون العادل.
الربط الكهربائي.. مصر بوابة إفريقيا وآسيا
تحركت مصر أيضًا بقوة على مسار الربط الكهربائي، حيث نفذت مشروعات ضخمة لربط شبكتها الكهربائية مع:
-
السودان: تم تشغيل المرحلة الأولى بطاقة 80 ميجاوات، مع خطة للتوسع حتى 300 ميجاوات.
-
ليبيا: تم ربط الشبكتين وتوسيع القدرات لتلبية الاحتياجات المتبادلة.
-
السعودية: مشروع استراتيجي بقدرة 3000 ميجاوات، بدأ تنفيذه على أن يتم التشغيل في 2026.
-
قبرص واليونان: مشروع الربط الثلاثي تحت البحر، والذي سيجعل مصر أول دولة إفريقية مرتبطة كهربائيًا بالقارة الأوروبية.
هذه المشاريع تعزز قدرة مصر على تصدير الفائض من الكهرباء، خاصة في ظل توسعها الكبير في مشروعات الطاقة النظيفة.
الطاقة المتجددة.. استثمار في المستقبل
منذ سنوات، تبنّت مصر سياسة واضحة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وزيادة مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة، خصوصًا الشمس والرياح. وأبرز المشاريع في هذا الصدد:
-
مجمع بنبان للطاقة الشمسية في أسوان، والذي يُعد من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم بقدرة تفوق 1.6 جيجاوات.
-
مزارع الرياح في خليج السويس وجبل الزيت، التي تسهم بآلاف الميجاوات في الشبكة القومية.
وتهدف الحكومة إلى الوصول بنسبة الطاقة المتجددة إلى 42% من إجمالي الطاقة بحلول عام 2035، بدعم من التمويل الدولي والشراكات مع القطاع الخاص.
البنية التحتية والتشريعات.. تسهيلات لجذب الاستثمارات
استثمرت مصر مليارات الجنيهات في تطوير البنية التحتية للطاقة، من شبكات نقل وتوزيع الغاز والكهرباء، إلى الموانئ وخطوط الأنابيب، بما يعزز جاهزيتها لتكون مركزًا للتداول الإقليمي.
كما عملت الحكومة على تحديث التشريعات المتعلقة بالطاقة، وأبرزها:
-
قانون تنظيم سوق الغاز الذي يسمح للقطاع الخاص بالمشاركة في عمليات الاستيراد والتوزيع.
-
إنشاء جهاز مستقل لتنظيم سوق الكهرباء لضمان المنافسة العادلة.
-
تحديث منظومة الدعم بما يضمن الاستدامة المالية للقطاع دون الإضرار بالفئات الفقيرة.
التحديات والفرص
رغم التقدم الكبير، ما تزال هناك تحديات، مثل:
-
تقلبات أسعار الطاقة عالميًا وتأثيرها على تدفقات الاستثمارات.
-
منافسة مراكز أخرى مثل تركيا واليونان على دور الممر الإقليمي.
-
أزمات التمويل والمناخ السياسي الإقليمي.
لكن في المقابل، تمتلك مصر فرصًا واعدة:
-
قربها من الأسواق الأوروبية والعربية.
-
وفرة الكوادر البشرية والمهارات الهندسية.
-
علاقات دولية قوية وشبكة من الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف.
آفاق المستقبل
وفقًا لتقديرات مؤسسات دولية، مثل البنك الدولي ووكالة الطاقة الدولية، فإن مصر مؤهلة لتكون مركزًا إقليميًا للطاقة خلال العقد الحالي إذا استمرت في نفس وتيرة الإصلاحات والاستثمارات.
كما أن التقارير العالمية ترى في مصر جسرًا محوريًا بين إفريقيا وآسيا وأوروبا في تجارة الطاقة، خاصة مع توسع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، الذي بدأت مصر تخطط له كمصدر طاقة نظيف للتصدير.
لم يعد حلم تحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة بعيد المنال. فمع وجود بنية تحتية قوية، وشبكات ربط متعددة، واكتشافات غاز ضخمة، واستثمارات جادة في الطاقة المتجددة، تسير الدولة في الطريق الصحيح نحو تعزيز مكانتها الجيوسياسية والاقتصادية في خريطة الطاقة العالمية. ويبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على استدامة هذه الإنجازات، وتعزيز الشفافية والتعاون الإقليمي لضما